
من البصرة الفيحاء إنبعثت الحضارة
عبد العزيز بدر بن حمد القطان
لتعرف تاريخك وتتحدث عنه في المجالس، إبدأ من بلدك ومدينتك وما يحيط بك من حضارة، إبحث وتقصّى، وإسأل، الأجوبة محيطة بك، وحولك وكيفما إتجهت، فعُمر حضارتك آلاف السنين. فمعرفة التاريخ كنز حقيقي خاصة عندما تعرفه من كل جوانبه، حينها تستطيع كتابته والتغني به والإفتخار!
وهل أجمل من أن نبدأ التاريخ من مدينة البصرة، بصرة الفيحاء، إن مدينة البصرة أشهر مدن العراق، وأول مدينة إسلامية بنيت خارج الجزيرة العربية زمن الفتوحات الإسلامية، أما قبل الإسلام كانت البصرة في الجاهلية من ثغور العراق، فيها خليط من أمم شتى؛ فرس ويونان أحلّهم فيها الإسكندر، وهنود انتشروا في بطائحها، وقد نزلها العرب منذ القديم، تقع المدينة على الضفة الغربية (اليمنى) لنهر شط العرب، وأول إنشائها كان في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سنة 14 للهجرة.
من هنا، عندما تبدأ بمعرفة تاريخك وتسلسل الأحداث الزمنية، بتجرد وموضوعية دون الغوص في أتون التعصب أو المذهبية، نقول إنك وطئت العتبة الأولى، فالنقل والتأريخ امانة، إن لم تصنها ستحاسب على كل خطأ إرتكبته إن لم تكن موضوعي في سردك لتاريخ أمتك وتأريخها، خصوصاً مع تعدد المصادر وإقترانها بعوامل عديدة، كالزمان والمكان والمصدر والمرجع المعتمد، والتدقيق في التواريخ والأسماء وما إلى هنالك.
تاريخ عظيم
تزخر البصرة كما غيرها من مدن العراق القديمة بالعديد من الآثار والأماكن التاريخية المهمة التي تحكي حقب مهمة في تاريخ العرب والمسلمين ككل، فمن سوق المربد الذي جمع نحاة العرب وشعراءهم قبل أكثر من 1400 عام في دار الإمارة ومدرسة الحسن البصري ومقر الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى حلقات الواصل بن عطاء ودروسه، وصولاً إلى منازل المعتزلة وأضرحة الزبير وطلحة وقادة حروب فتح العراق.
تحتوي مدينة البصرة على كثير من مشاهد وقبور بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فمن المشاهد مشهد طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي “594 ميلادي، ومشهد الزبير بن العوام، 594 ميلادي إبن عمة نبي الله صلوات الله عليه، وفي البصرة قبر أنس بن مالك وفيها كذلك قبر الحسن البصري، ومحمد بن سيرين ومالك بن دينار خادم نبي الله،711 ميلادي، وغيرهم من مشاهير هذه الأمة، وفي البصرة أيضا قبور الصحابة الذين استشهدوا في واقعة “الجمل” هي معركة وقعت في البصرة عام 36 هـ بين قوات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والجيش الذي يقوده الصحابيان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام.
إذاً، عندما أدون التاريخ كما ذكر، المصادر هي الأساس ليتم عليها البنيان المتين، فمتى أنشأت مدينة البصرة ومن قام فتحها وفي عهد من؟، أسئلة مشروعة وواجبة على كل مؤرخ معتز بما يكتب.
شيدت المدينة عام 636 ميلادي، في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، تعد البصرة من أشهر مدن العراق التاريخية التي كان لها دور هام في التاريخ الإسلامي المبكر، وهي أول مدينة إسلامية بنيت خارج الجزيرة العربية زمن الفتوحات الإسلامية.
قديماً، يعود تاريخ مدينة البصرة إلى ما قبل العصور التاريخية حيث يعتقد الكثير من الباحثين على أن جنات عدن التي نزل فيها آدم أبو البشر تقع إلى الشمال من مركز المدينة وبالتحديد في منطقة القرنة التي تحتوي على شجرة آدم حسب الاعتقاد السائد هناك. وقد بنيت البصرة على أنقاض معسكر للفرس في منطقة كانت تدعى الخُرّيبة. وتعد المدينة جزء من موقع سومر التاريخي، وموطن السندباد البحري.
مؤرخون مبدعون
إن أردنا الغوص في جمال العالم الإسلامي ومدنه من بغداد السلام إلى قاهرة المعز ودمشق الفيحاء والقدس وكل المدن العربية ذات البُعد التاريخي، بأقلامٍ سطرت عنهم روائع التاريخ دون مبالغة، النتائج منطقية ومُرضية وأصيلة، هل لأن الكتّاب جبلوا مع هذه الأرض، أم هي أمانة الناقل والمنقول وتأريخ حضارة، فليس هناك أعظم من المؤرخ المرحوم عباس العزاوي 1891 م، يعود نسبه إلى قبيلة العزة في محافظة ديالى مسقط رأسه، وهو المحامي والأديب عراقي، كان عضوا في عدة مجامع علمية عربية، أتقن اللغات التركية و الفارسية، واعتنى بالتأليف عن تاريخ العراق وأشهرها موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين، والتي أرخ فيها للفترة التي تمتد من سقوط بغداد عام إلى نهاية الاحتلال البريطاني، ويعد من أبرز المؤرخين العراقيين في العصر الحديث.
لقد كان العزاوي يرى أن الأمة في حاجة دائمة الى إثارة تاريخية تذكر بالماضي القريب والبعيد في حياتها السياسية والثقافية. وذهب العزاوي ابعد من ذلك حينما اخذ يدعو الى اتخاذ التاريخ منبرا للوعظ والإرشاد.
وكان منهج العزاوي التاريخي يرتكز على المقولة التي تذهب إلى أن إدراك الحوادث التاريخية إذا كان صعبا فلا ريب أن توجيه الوقائع أصعب وبعبارة أخرى كان العزاوي يتوخى الحقيقة فهي عنده مقدسة. أما الواقعة التاريخية فقد بقيت عنده مصدر اهتمامه. كان يقول: “هدفنا تدوين الوقائع بوجه الصحة ولا امل لنا غير ذلك”.
اما طريقته في كتابة التاريخ وتدوين أحداثه فتقوم على أساسين هما تعيين المراجع ودرجة الانتفاع بها، والتوثق من صحتها ومع أنه كان مطلعا على جميع المدارس التاريخية، إن عباس العزاوي، بمؤلفاته العديدة، يعد الرائد الأول في ميدان البحث في تاريخ العراق الحديث. لقد ترك كثيراً من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة ويأتي في مقدمة الكتب المطبوعة كتابه المشهور “تاريخ العراق بين احتلالين”.
بأمانة أجد كتابه “العراق بين إحتلالين” من أروع ما كتب، ولعله أفضل مما كتب المؤرخ حنا بطاطو المؤرخ الفلسطيني من مواليد مدينة القدس عام 1926، الذي بدأ بدراسة تاريخ العراق، إلى جانب تخصصه في تاريخ المشرق العربي الحديث، إلا أنه مال إلى التحليل الاجتماعي السياسي في تأريخه، إلا أن الفرق بالأسلوب الأكاديمي مع الإحترام والتقدير للمؤرخ بطاطو رحمه الله.
مساجد البصرة
تحتوي البصرة على ما يقارب الـ 200 مسجد، إلا أن أهمها المساجد التاريخية الأثرية المشهورة أهمها:
جامع البصرة الكبير، وهو أول مسجد في الإسلام خارج منطقة شبه الجزيرة العربية، وبني عام 14 للهجرة بعد فتح البصرة من قبل القائد العربي عتبة بن غزوان في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وبعد حريق البصرة الكبير عام 17 للهجرة، أعيد بناؤه مرة أخرى من قبل الوالي أبو موسى الأشعري.
شهد هذا المسجد مراحل مهمة من تأريخ الإسلام والمسلمين وتأريخ العراق ففي أروقته كانت تعقد حلقات الدرس العلمية والفقهية واللغوية حتى صار فيما بعد من أكبر المعاهد العلمية الذي درست فيه مختلف العلوم.
وفيه ألقى الخليفة الرابع امير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب خطبته الشهيرة عندما وصل إلى العراق عام 36 للهجرة، ولذلك يطلق عليه اليوم أيضا اسم جامع خطوة الإمام علي ، ومن مشاهير من زاروا المسجد أو قضوا شطراً من حياتهم بين جنباته، عبد الله بن عباس، والحسن البصري، وتلميذه واصل بن عطاء، وكبار علماء المعتزلة، وأبي علي الجيائي، وأبو الحسن الأشعري، ونشأ عنه مذهب الأشاعرة في علم الكلام، فضلاً عن عشرات الصحابة الذين استقروا في البصرة أو أقاموا فيها فترات مختلفة خلال معارك المسلمين لفتح بلاد فارس ويضم حاليا مكتبة ضخمة فيها وثائق وكتب نادرة ونفيسة.
لكن، المسجد حاليا ورغم إعادة تعميره والاهتمام به بحيث أصبح مقصدا مهما للسياحة الدينية على وجه التحديد، لكنه ما زال بحاجة إلى اهتمام أكثر وصيانة الأجزاء التراثية الموجودة فيه بشكل مستمر وفقا للقائمين عليه.
ومن المفارقة الأخرى الحجاج بن يوسف الثقفي ارتكب بهذا المسجد المجازر.
وكان إمام أئمة هذا المسجد عالم إمام البصرة الجليل الكبير سيد التابعين “الإمام الحسن البصري” والإمام “محمد إبن سيرين” وسيدنا “أنس بن مالك” خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبالمناسبة ابن سيرين صلى على أنس بن مالك وكان مرافق له وكان يروي عنه وكان يستمع ويدون له أغلب أحاديثه.
فمسجد البصرة الكبير يقولون سمي المسجد الجامع وله مسميات كثيرة جدا ويتوافد عليه الكل من كل حدب وصوب خصوصاً في زمن الدولة العثمانية سواء من باكستان والهند والخليج، هذا المسجد موجود في قضاء الزبير، فعندما تجبس وتقرأ وتتأمل تاريخ هذا المسجد هذا المكان مدرسة الحديث النبوي الأولى، خصوصاً في العراق، وكل كتب الحديث من البخاري إلى مسلم إلى إبن حبان وغيرهم البداية الحقيقية من مسجد البصرة.
وفي البصرة، جامع المقام، أسس عام 1754 م، وسبب تسمية الجامع بالمقام نسبة إلى دار المقام العالي. ومسجد ابن عيد، وهو من مساجد البصرة القديمة ولقد بني قبل 300 عام تقريباً ويقع في محلة المشراق وسط البصرة، جامع العشرة المبشرة، وجامع السيد علي الموسوي، وجامع الهدى، وجامع الرحمن، وجامع القبلة، وغيرهم الكثير.
وهل أروع مما كتب الإمام شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء، هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الأصل ثم الدمشقي شمس الدين الذهبي. ويعتبر الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام، كما أنه أحد أعلام الحفاظ الذين برزوا في علم الحديث، المولود 673 للهجرة في دمشق، وقد خلف الحافظ الذهبي للأمة الإسلامية ثروة هائلة من المصنفات القيمة النفيسة التي هي المرجع في بابها وعظمت الفائدة بهذه المؤلفات ونالت حظاً كبيراً من الثناء وكان لها القبول التام لدى الخاص والعام.
فعندما أتكلم اليوم عن مساجد البصرة من الطبيعي جداً أن أقرأ وأتتبع ما كتب الإمام شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العلماء الذين مروا في العراق منذ زمن عمر بن الخطاب الذي فتح العراق والمدائن وغيره من العلماء لأعرف التواريخ وأستطيع الوصول إلى نتيجة لأعرف تاريخ هذا المكان أو هذه البقعة من الأرض من تاريخ الكوفة أو تاريخ البصرة وغيرهم.
في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، وتاريخ علماء البصرة ستصل أيضاً إلى نتيجة معينة عن تاريخ مساجد البصرة والأماكن التاريخية التي أهملت ولم يعرف عنها أحد حتى القبور فهناك قبور وهمية وتحققت من هذا الأمر من محدث البصر الكبير الأستاذ د. عبد الباسط خليل محمد الدرويش “1958” م، أستاذ علم الحديث وعلومه في قسم القرآن الكريم بكلية العلوم الإنسانية في جامعة البصرة، هذا مؤرخ وكتبه جميلة وعلمية وأكاديمية.
المسجد مدرسة حديث عريقة كان يجلس فيها سعيد ابن الجبير وإسجق ابن راهوي وأبو حنيفة النعمان وابن سيرين ومحمد ابن إسماعيل البخاري أول زيارة له لطلب الحديث والعلم كان مسجد البصرة، حتى علماء اللغة أبو الأسود الدؤولي الأصمعي كلهم كانوا في هذا المسجد يمرون حتى الامام محمد بن إدريس الشافعي.
وفي بداية النهضة في الخليج سواء المعمارية والثقافية وكان علماء الحديث من الخليجيين من المذهب المالكي كانوا يزورون البصرة ويطلبون العلم منها وفي الخليج كان هناك مدرسة الإحساء التي تضم علماء المالكية والشافعية كانوا يزورون البصرة، فكانت الأرواح كلها تتوافد إلى البصرة.
عندما نتكلم عن البصرة نتكلم عن تاريخ عظيم لعلماء الحديث الكبار الجهابذة، حتى علماء الحديث في مدينة السلام بغداد كالحافظ ابوبكر احمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي والامام أحمد بن حنبل والمحاسبي والطبري وبن الجوزي وغيرهم أيضا كانوا يزورون البصرة الفيحاء فلا أحد يستطيع أن يقول إنه محدث أو راوي إن لم يتزود من علماء البصرة ومسجدها.
إعتزوا بتاريخكم وموروثكم وشوارعكم، أنتم التاريخ أنتم العراقة، عندما تقول “أنا عراقي” تذكر كل علماء الحديث واللغة والنحو والمدرسة الكوفية والبصرية تذكر سيبويه والحسن ابن الهثيم والدوؤلي والإمام علي وآل البيت وعتبة بن غزوان وأنس بن مالك وعمر بن الخطاب فاتح العراق وفارس تذكر قادسية الاسلام وبطولات المسلمين في ذي قار والمدائن وواسط التي فيها مدفن الشاعر أبو الطيب المتنبي تذكروا مسجد البصرة أول مسجد بني في الإسلام خارج نجد والحجاز في زمن قائد الفتح الاسلامية العظيم عمر بن الخطاب.
خاص سناtv