
منذ يومين، التقيت صديقًا مثقفًا، وفي جلسةٍ امتدت أكثر من ثلاث ساعات، جمعَتنا بشخصيةٍ مارونيةٍ شغلت حقيبةً سيادية، وكانت من الوجوه الفاعلة في مؤتمر مدريد للسلام، حيث كان لها الباعُ الأطول في الدفاع عن الحقوق العربية. ما قالته أثار فيّ قلقًا عميقًا، فحاولت أن أستكمل الصورة، لأدرك — ولو جزئيًا — ما الذي يجري حقًا خلف الكواليس.
اليوم وفي صباح جبيلي يعبق بالقلق، كان الحوار مع صديق لبناني في الاغتراب، رجل عرف السياسة عن قرب، وعرف أيضاً وجع الوطن من بعيد. سألته: لماذا لا يتحرك اللبنانيون في الانتشار، بكل ما لهم من نفوذٍ وصداقاتٍ في عواصم القرار، ليضغطوا من أجل فتح باب الإعمار؟
فاليوم، أكثر من أي يوم، الجنوب الجريح بحاجةٍ إلى من يرمّم الحجر والبشر، بعيدًا عن حسابات السياسة “سلاح وانتخابات” وتعقيدات الإقليم.
فقال لي بهدوء العارف: “لا إعمار في لبنان ولا في غزة قبل السلام”.
كأنها خلاصة عقيدةٍ جديدة في دهاليز العواصم، عربية كانت أم غربية.
شرحت له هل أن القرار 1701 بات حبراً على ورق، وأن إسرائيل تبحث كل يوم عن ذريعة لتجاوزه، وأن الأحاديث في الكواليس الدبلوماسية تزداد حول شرق أوسطٍ يُراد له أن يُعاد رسمه بالنار حيناً وبالتسويات حيناً آخر.
فأجابني بما يشبه الاعتراف السياسي:
“العالم لن يدفع مليارات الدولارات ليبني ما قد تهدمه قذيفة واحدة”.
كما انه قال، حماس تطلب بهدنةً لخمس سنوات، لكن من يضمن أن لا تنفجر رصاصة أو تنطلق عملية صغيرة فيعيد الاحتلال التدمير من جديد؟
ومن يضمن أن لا يتكرر المشهد ذاته في لبنان؟
فحتى لو صمتت بنادق فصائل المقاومة، هناك دائمًا من قد يطلق النار — عمداً أو صدفة، أو حتى بإيعازٍ خفي — فتعود الدائرة إلى بدايتها: حربٌ جديدة، دمارٌ جديد، ومفاوضاتٌ جديدة على ركامٍ قديم.
الرؤية الغربية، كما شرحها صديقي، تقوم على معادلة بسيطة وخبيثة في آن:
السلام أولاً… ثم الإعمار.
فالإعمار من دون تسوية دائمة يعني “في منطق الغرب والعرب اليوم” استثمارًا خاسرًا في أرضٍ قابلةٍ للانفجار، ومع اي حرب ثانية ومهما كان الاعمار وحجمه، فان اسرائيل قادرة ان تحول هذه المباني الى توابيت وقبور، فنصف الشهداء بغزة تحت الانقاض وكذلك حصل في لبنان.
وتأفف صديقي في الاغتراب: “حتى الناس ملت تعمر ويرجع كل شي يتدمر”.
لكن بين سطور هذا المنطق تكمن الحقيقة الأعمق:
أن السلام الذي يطلبونه ليس سلام الشعوب، بل سلام المصالح؛
ويمنح إسرائيل شرعية التمدّد السياسي بعد أن عجزت عن التوسّع العسكري.
إسرائيل، كما قال أحدهم ذات يوم، لا تتوقف عن الحرب، بل تغيّر أدواتها.
وها هي اليوم تنتقل من الطائرة إلى الطاولة، ومن النار إلى الكلمة، لتأخذ بالسياسة ما عجزت عنه بالقوة.
ومع ذلك، تبقى السياسة — كما علمنا التاريخ — فنّ الممكن، لا الممكنات المستحيلة.
ومن يُتقن هذا الفن، قد ينتصر بلا حرب، كما قد يُهزم بلا طلقة.
ولنختم، بصوتٍ هادئٍ لكنه لا يقبل بالتهاون: لو أردنا لإعمارٍ حقيقيّ أن يبدأ، فليكن السلام صنعًا محليًا وهو “السلام العادل والشامل” قبل أن يصبح مشروعًا مفروضا إقليميًا أو دوليًا.
اجتمعوا — لبنانيين وفلسطينيين، مهاجرين ومقيمين، رجال سياسة ومجتمع مدني — واجعلوا من الإعمار شرطًا للعيش ومن السلام غايةً لا تفاوض عليها. مهمتنا ليست أن نختار بين سلاحٍ وعمارة، بل أن نبني مؤسساتٍ تقود إلى سلامٍ مستدام، وتضمن أن لا تعود النار لتأكل ما تبنونه.
السلام الذي نريده هو سلام الكرامة والعدل، وليس مجرد هدنةٍ على ورق. فكل حجر يُبنى اليوم بحسّ المواطنة والعمل الجمعي يختزل بذرة أملٍ لبلدٍ لا يموت، ولأولادٍ لن يرثوا منّا سوى وطنٍ أقوى.
اليوم المعادلات تغيرت والمطلوب حلول اشمل.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.







