
في أحد اللقاءات قبل عقدين من الزمن، قال لي صديق مسيحي عارف بتاريخ المشرق: “لا أحد يعرف عقلية اليهودي كما يعرفها الفلسطيني، لأن هذا الصراع لم يبدأ مع قيام إسرائيل، بل مع فجر التاريخ، يوم وقف الكنعاني في وجه القادم من الصحراء.”
كان الرجل يرى، كما أرى اليوم، أن إسرائيل لا ترى في انتصارها على الفلسطينيين حربًا على جماعة، بل نصرًا على التاريخ نفسه، لأن الكنعاني هو مرآة الذاكرة الأولى لهذا الشرق.
هو صراع أعمق من حدود السياسة، وأبعد من جغرافيا فلسطين. إنه صراع أبناء سام وحام؛
بين من رفعوا أنظارهم إلى السماء من ابناء سام، يكتبون الشعر ويعلّمون الأبجدية مؤمنين أن مملكتهم هناك،
وبين من ابناء حام الذين بنوا الأرض حجراً فوق حجر، من بابل إلى صور إلى الأهرام، مؤمنين أن الخلود على الأرض هو وجهٌ آخر للسماء.
وجاءت الأديان لكنها ابقت على فلسطين النقطة التي تتقاطع عندها السماء والأرض، ويتجدد فيها النزاع كلما ظن الناس أنه انتهى.
ثم جاءت معركة طوفان الأقصى.
معركة لا يمكن لأي قلم أن يُحيط بأسرارها، لأن الذين خاضوها يعرفون تضاريسها ودماءها أكثر من كل محلّل ومنظّر.
قرر الفلسطيني، في لحظة قدرٍ، أن يدخلها وحده.
وحين اشتعلت غزة، دخل حزب الله المعركة لا بحثًا عن نصرٍ، بل عن واجبٍ أخلاقيٍّ وعقائديٍّ: أن يخفف عن غزة جحيمها، وأن يذكّر العالم أن فلسطين ليست جرحًا يُترك للنسيان.
لكن العرب — شعوبًا وأنظمة — تركوا غزة ولبنان معًا في الميدان.
لم تتحرك العروش، ولم تهتز الشوارع، كأن الدم العربي فقد صوته في عروقه.
والموت الإسرائيلي الممنهج وجد غطاءً أمميًا، وصمتًا عالميًا يساوي التواطؤ.
ثم استُشهد السيد حسن نصرالله، ذاك الزعيم الإسلامي العابر للطوائف والحدود،
وسقطت معه قامات فلسطينية عظيمة، كُتب بأسمائها فصل جديد من فصول الأسطورة.
غير أن إسرائيل، التي تقرأ جيدًا عقل المقاومة، أدركت مبكرًا أن اغتيال إسماعيل هنية في مطلع الطوفان ليس فقط ضربًا لقيادة، بل لكسر الجسر الذي يربط البندقية بالعقل السياسي،
ولتترك الميدان مفتوحًا أمام العسكر بلا بوصلة سياسة.
ثم جاء يحيى السنوار، رجل الميدان لا المفاوضات،
عرفت إسرائيل ان الفرصة متاحة لأن الطريق إلى تسوية سياسية مع السنوار مسدود، وهذا ما تريده اسرائيل.
فأشعلت الحرب على لبنان لتجرّ الحزب إلى معركة استنزافٍ طويلة،
فسالت الدماء من غزة إلى دمشق إلى طهران واليمن،
وسقط نظام بشار الاسد في سوريا كما تسقط الأسوار القديمة في وجه رياح التاريخ.
إلى أن سلّم الشيخ نعيم قاسم راية الحزب.
فاجأ الجميع — الأصدقاء قبل الخصوم — برؤيةٍ سياسية تجمع بين الصلابة والمناورة.
رجل الدين الذي ظنوه لا يعرف إلا لغة الجبهات،
أثبت أنه رجل دولة يعرف متى يُطلق النار ومتى يضعها على الطاولة كأداة تفاوض.
قرأ الشيخ نعيم قاسم المشهد بعين السياسي الفقيه، فاستعاد القرار 1701 من ذاكرة الحرب، وحوّله من قيدٍ دولي إلى سلاحٍ قانونيّ لحماية لبنان، مفهمًا الداخل والخارج أن وقف النار ليس هزيمة بل ذكاء، وأن السياسة حين تخدم المقاومة لا تنقضها، بل تُحصّنها.
غير أن في المحور من لا يفهم إلا لغة الصواريخ،
من يعيش على ضجيج الحرب ويظن أن الضربة بيان،
أولئك الذين يظنون التحليل موقفًا والمزايدة بطولة.
هؤلاء، إن لم يُبعدوا عن المشهد، فسيهلكون الفكرة كما هلكت من قبل مشاريع كثيرة بالحمّى نفسها، واعني بهم غلابية الاعلاميين والمحللين السياسيين خاصة في المحور..
اليوم تدخل حماس في تسوية، ولو أنها جاءت يوم تولّى الشيخ نعيم قاسم الأمانة العامة، لربما تغيّر وجه المنطقة.
لكن كما بدأت معركة طوفان الاقصى دون تنسيق مع المحور، جاءت التسوية السياسية أيضًا بلا تشاور، خاصة ان دول عربية وصاغت بنودها مع انه هذه العواصم العربية لم تقدم لحماس ولا حتى موقف اعلامي، لكن هذا هو المتغير في المنطقة، ولا سبيل اخر لايجاد تسوية.
مع ان هذه التسويةٌ لإنقاذ ما تبقّى من غزة وسكانها، فانها تجربة ستُعلّم الفصائل أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي،
وأن السياسة ليست نقيض المقاومة بل ظلّها الحكيم.
لكن المشكلة اليوم ان الولايات المتحدة أعادت تطبيق نموذجها اللبناني على غزة:
وقف للنار، وسلاح يُسلّم، ومشرف على القطاع.
لكن المقاومة، رغم كل شيء، نجحت في فرملة المشروع الأمريكي،
وأفشلت خطة كانت ستصل إلى تدمير العمق الشيعي من الجنوب إلى البقاع.
غير أن السؤال الذي يطل من بين الركام:
هل بعد حماس وتسليم سلاحها ومغادرة غزة؟ هو السيناريو الذي يُراد للبنان أن يعيشه، فتُطلب من مقاومته مغادرة أرضها وتسليم مفاتيح المقاومة واسلحتها؟
الجواب ليس في واشنطن ولا في تل أبيب، بل في عقل الطائفة الشيعية،
التي عليها اليوم أن تولّد من داخلها نخبة مدنية فكرية تحمي انجازات المقاومة ونفسها، وتوازن بين الرصاصة والفكرة، والحماس والوعي، بين الميدان والدولة.
فالزمن تغيّر، والمنطقة تغيرت والمنهج المتبع منذ اربعة عقود لم يعد يفيد بل قد يحول المقاومة والمقاومة من قدرٍ تاريخي إلى ذكرى جميلة.