اقلام حرة

مقارنة الأشرار ما بين رعاة البشر… ورعاة الماعز والغنم والأبقار .

 

مقارنة الأشرار ما بين رعاة البشر… ورعاة الماعز والغنم والأبقار ….

استوقفتني في الأيام القليلة الماضية قصّتين وصلتا عبر وسائل التواصل الإجتماعي من بعض الأصدقاء، وهما من “ادب الرعاة” ولطالما كنت مُعجباً ببساطة حياتهم وبقدرتهم الرائعة على إعطائنا اروع الدروس في فهم مشاكل الحياة ومآسيها. وقد أُعجبت جداً بهاتين القصّتين لما فيهما من معانٍ وعِبر تُحاكي واقعنا السياسي والإقتصادي والمعيشي الميؤس منه في لبنان، والذي يُنذر بقدوم ايام اكثر صعوبةً وقساوةً في كافة المجالات والاتجاهات. وقد قرّرت ان ارويهما مع بعض التعديلات الطفيفة لكي اوجّه من خلالهما رسائلي المدوّية في وجه بعض الجهلة والمساكين، المشابهون الى حدٍ بعيد، ابطال هاتين القصّتين دون اية زيادة او نقصان.

١-القصة الأولى هي قصة المرياع:
فتعالوا اوّلاً لنتعرّف على المرياع،
فإذا اردنا في البداية ان نعرف عمق وخطورة الأزمات السياسية والإقتصادية المالية التي يعاني منها لبنان، يجب علينا ان نتعرّف على الأكثرية الساحقة من زعماء وسياسيي هذا البلد.
فما اكثر ممّن يمشي البعض خلفهم في لبنان وفي معظم بلادنا العربية دون تفكّر، وتعمّق في اسباب هذا السير الأصمّ الأبكم و الأعمى ورائهم…
وللحقيقة هذا ما اوصلنا للحضيض الذي نُعاني منه، او ساهم فيه بشكلٍ كبير…
واليكم التعريف بالمرياع :
المرياع، في اللغة العربية هو “خروف الغنم” يُعزل عن أمّه يوم ولادته، ويُوضع مع أنثى الحمار ليرضع منها ويتربّى برعايتها، لدرجة تجعله يعتقد بأنّها امّه. وبعد أن يكبر يُخصى، ولا ُيُجزُّ صوفه للهيبة والوقار.
وتنمو قرونه فيبدو ضخمًا ذو هيبة وسطوة وسلطة تمام كبعض زعمائنا، وُتعّلق حول عنقه الأجراس الطّنانة الرّنانة، فإذا سار المرياع سار القطيع وراءه
مُعتقداً انه يسير خلف زعيمه البطل….
لكن المرياع ذو الهيبة المغشوشة لا يسير إلا إذا سار الحمار امامه، ولا يتجاوزه أبداً في كل الظروف. وتمشي الأغنام خلف قائدها الذي يمشي خلف الحمار ..واعتقد بان المشهد واضح.
ومن هنا نقول لكل من يمشي وراء اي “مرياع” لاي طائفةٍ او مذهبٍ او منطقةٍ او ملّةٍ او عقيدة او ناموس، إيّاكم ان تغرّكم كثرة المظاهر والأجراس الطنّانة، الرنّانة، والهيبةِ المغشوشةً وكثرة الخدم والحشم حول هذا او ذاك….فعليكم دوماً ان تفكّروا بشكلٍ عميق وان تُحلّلوا جيد ًا كل الأمور من حولكم لتختاروا الأشخاص الذين تستطيعون ان تستمعوا لهم والتمسّك بمواقفهم وإرشاداتهم، واتمانهم على قيادة امور البلاد والعباد، وحتى قبل السماح لهم بقيادة سفينة الخلاص والإنقاذ، بحال فقدانهم للمُؤهّلات…

ونكمل حديث الرعاة بقصة ثانية: أخبرني راعي القرية يوماً، انّ الكرّاز اي “التيس من الماعز”، وهو القائد الأعلى لجيش المعزى، وعلامة قيادته هو الجرس ايضاً ، يُعلّق برقبته كي يتبع الماعز رنينه ويلتفّ حوله خلال الرعي، وطالما يسمعون صوت الجرس، يمشون حين يمشي ويتوقّفون حين يتوقّف. لذاك فهو المسؤول عن كل شاردة وواردة تقوم بها الماعز، اثناء الرعي في البراري والحقول والوديان.
وصدف أن طفشت الماعز في أحد حقول القرية، اي غزته وخرّبته وأكلت الأخضر واليابس فيه، فما كان من الراعي -صاحب القطيع-إلا أن صبّ جام غضبه على الكرّاز، كونه المسؤول عن هذه الغزوة التي تسبّبت بأضرار بالغة في حقل احد ابناء القرية. وقد اخذ الراعي ينهال على الكرّاز بالعصا حتى أنهكه ضرباً واعطاه درساً مُعتبّراً في سوء الإدارة والتقصير واللامبالاة اثناء قيادته لأمور القطيع..
وقد كان من العادة أن ينزع الراعي جرس القيادة عن التيس مساءً ليعود ويعلّقه في رقبته صباحاً كعادته. تماماً كما يجب علينا ان نفعل في كل موسم او دورة إنتخابية في حال كان قادتنا ومسؤولينا ذوي ثقة وخبرة وكفاءة عالية في إدارة ملفّاتهم وبتسييرهم للأمور، الإقتصادية والمالية، الطبية، والتعليم والمياه والكهرباء والأشغال العامة وغيرها من الملفّات..
فلمّا جاء الصباح أراد الراعي أن ُيُعلّق الجرس في رقبة الكرّاز مُجدد ًا ليسرح بماعزه في البراري، فإذا بالتيس يتخبّئ بين الماعز واحيانا وراء الصخور، هرباً من المسؤولية التي شعر انه ليس “تيسا” لها وانه خان الراعي فيها، عندما اولاه قيادة القطيع وتسيير اموره، خاصة وانه لم ينسى بعد الألم الشديد الذي لقيه من جرّاء ضربات العصا التي علمت على جلده….
هنا ضحكت، ضحكت لهذه القصة وما زلت اضحك حتى الساعة وقلت لذلك الراعي وأنا ألتقط أنفاسي، عجيب كيف أن “التيس” يهرب من المسؤولية، فيما أصحاب العقول يتهافتون عليها، ويخربون البلد ويعطّلونه اشهر او سنوات، وهم مُستعدّون لتدميره كلياً هو واهله في سبيل هذا الكرسي او هذا المنصب، الوزاري او الإداري او تحت ستار عدم إنتهاك الصلاحيات الدستورية والأعراف والبروتكولات التي نعرف جميعاً انها لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، وانهم داسوها بأرجلهم منذ اكثر من اربعين سنة لأن همّ معظمهم الأوّل والأخير تعليق الأجراس الطنّانة الرنانة بهدف قيادة القطعان المُطيعة المبهورة بأجراسهم وصوفهم وقرونها المغشوشة ولو ادّى ذلك بمن يسير خلفهم للسقوط في وديان الهلاك ومزارع الفقر والحرمان والذلّ ولا شيء سوى ذلك ؟..

وهناك استدرك الراعي وقال لي: لو كانت هناك عصا مثل عصا الراعي تنتظر الفاسدين والناهبين والساقطين منهم لما تجرّأ أحد منهم على التنطّح لمسؤولية القيادةً والإدارة إذا لم يكن جديراً بهما..!!
ومشكلتنا في لبنان انه لا “عصا داخلية” لمحاكمة الساسة الفاسدين وملاحقتهم ولا من يحزنون، حيث ان القضاء إما متورّط حتى النخاع في عمليات الفساد او مُتواطئ على تغطيتها وعدم مُلاحقتها او مُقصّر او مُتلكّئ في ذلك. واما “العصا الخارجية” فهي لا تأتي الينا دون اثمان. وهي عصا قد تلبس في غالب الأحيان لبوس معاني الإنسانية وحقوب الإنسان والتعاون والتكافل الدولي والحرص على مصالح الشعوب وحقوقها في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة وما الى ذلك من معانٍ … إلا ان الدول الأجنبية لاتأتينا كجمعيات إنسانية لا تتوخى الربح. وهي بالطبع ليست فروع لجمعية كاريتاس وغيرها من الجمعيات الإنسانية. ولذلك علينا دوما ان نعمل على تقوية “العصا الداخلية” وان نسعى لتقويم الإعوجاج الذي يقوم به تيوس هذا البلد او مراييعه مع إحترامنا طبعاً لبعض اهل السياسة النزيهين والوطنيين والشرفاء التي لا تشملهم هذه الأوصاف وهم قُلّة بالطبع!
وقد يكون ذلك مثلاً وليس حصراً من خلال تفعيل دور القضاء والسعي للوصول الى إستقلاليّته الكاملة وإبعاد تدخلات اهل السياسة وزعماء المليشيات والمافيات وحيتان المال عنه. وثانياً عبر إستعادة هيبة الدولة وثقة الناس فيها بعد ان اسهم اهل السياسة في تهشيم صورتها وتوهينها وتحطيمها بحيث اصبح معظم المواطنين لا يعيرون اي إهتمام لصورتها وهيبتها، ممّا ساهم بالوصول الى هذا الجحيم الذي نحن فيه..ولذلك وفي الخلاصة اقول كما قال لي الراعي في بداية القصّة انّ:
…”الكرّاز بين الماعز والغنم …ولا كرّاز بين (الحمير)”….
د طلال حمود- منسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق