مقالات

علم العلل وتميز البغداديون

إن العلوم كثيرة، تزداد أهميتها طبقاً لمنفعتها، وطريقة خدمتها للبشرية، عن طريق صياغة العلماء لها، وإيصالها إلى الجمهور بطرق مبسطة تكشف لهم الحلول وتؤمن إحتياجاتهم من فهم ما يبحثون عنه، ولعل علم الحديث من أهم العلوم التي إهتم علماؤها بالحديث النبوي الشريف درايةً وروايةً، إلا أن لكل علم برز معه ثغرات تسمى “علل” وإنبثق أمر أسمه “علل الحديث” لتمييز كلام النبي صلى الله وعليه وآله وسلم عن غيره، وأيضاً، لمعرفة الحديث الصحيح، من ضعيفه وصوابه من خطئه.

لكل علم رجالاته

ولا يختلف أحد أن علم الحديث له رجالاته، وخصهم سبحانه وتعالى بملكات لا توجد عند غيرهم، خاصة أولئك الذين أفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه، وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللبن، ولعل أبرز من برع في ذلك هم أهل العراق وتحديداً مدينة السلام “بغداد”، إذ أن أول من كتب به القطان يحيى بن سعيد القطان والدارقطني البغدادي ، إذ يغلب على أهل مدينة السلام بغداد النقد والتعليل وعلم الرجال، كما يغلب على أهل الشام كالمقادسة فن الرواية والأسانيد، فمن أراد أن يشرب هذا العلم غضاً طرياً فعليه بالمنبع والمصدر وهم متقدمي هذا الفن من البغداديين.

إن علم العلل من أشد العلوم غموضاً، لذلك يحتاج إلى كل من رزق سعة الرواية وكان ذكياً متبصّراً، وعلى دراية كاملة بمراتب الرواة، ولديه ملكة قوية بالأسانيد والمتون، وأهم من تكلم في هذا الخصوص الحافظ الامام أحمد بن حنبل الشيباني ويحيى بن معين والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وغيرهم، فكما ذكرت إن هذا العلم ليس بيسير ويحتاج إلى الحهابذة من العلماء، لكن الجامع فيه أن ميدانه ثقات الرواة ومروياتهم.

علم العلل

العلة في المعنى الخاص: هي سبب خفي يقدح في صحة الحديث.
العلة في المعنى العام: هي كل سبب يقدح في صحة الحديث، سواء كان غامضاً أو ظاهراً، وكل اختلاف ف الحديث سواء كان قادحاً، أم غير قادح.

إن علم العلل، يعرف بالنظر والصنعة وبالتاريخ وبالتلقي، وتدرك فوائده حيناً بعد حين، إذاً هذا العلم هو علمٌ برأسه غير الصحيح والسقيم، والجرح والتعديل، ويعلل الحديث من أوجه، ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقطٌ واه، وعلل الحديث تكثر في أحاديث الثقات، بأن يحدثوا بحديثٍ له علةٌ، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديثُ معلولاً. والعلة كما عرفها العلماء سببٌ خفيٌّ يقدح في صحة الحديث، فيصبح الحديث معلولاً بعد أن كان ظاهره السلامة، يقول ابن مهدي: لأن أعرف علةَ حديثٍ أحبّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديثاً.

من هنا إن الأصل في أحاديث الثقات، الإحتجاج بها والإلتزام بقبولها، ليكون مجال علم العلل أوسع من مجال الجرح والتعديل، ومما يدل على سعة هذا العلم أن معظم علوم الحديث تدخل فيه، إنما بزوغ هذا العلم جاء نتيجة للضعف البشري الذي لا يسلم منه مخلوق، ولا عصمة إلا لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وآله سلم، وما وراء ذلك يصيب ويخطئ، ويتذكر وينسى، على ما بينهم من تفاوت في ذلك، إلى جانب، ما يتصف به بعض الرواة من خفة الضبط، وكثرة الوهم، مع بقاء عدالتهم.

فضلاً عن الاختلاط، وخفة الضبط لأسباب عارضة، وغير ذلك.

الكشف عن العلل

للكشف عن العلل يجب إتباع الطريقة التي إنتهجها العلماء والبدء في معرفة مدارسهم ونشأتها ورجالها ومذاهبها ومدى تأثيرها وما تركته من أثر، والبحث في الإسناد والأسانيد صحيحيها وضعيفها، إلى جانب معرفة أبواب الحديث. لأن العلة أحياناً تكون في الإسناد، وأحياناً تكون في المتن.

فإذا وقعت العلة في الإسناد: فإما أن تقدح في السند، أو فيه وفي المتن، أو لا تقدح مطلقاً، وهكذا إذا وقعت العلة في المتن فعلى هذا يكون للعلة خمسة أقسام: تقع العلة في الإسناد، ولا تقدح مطلقاً. وتقع في الإسناد، وتقدح فيه دون المتن، وتقع في الإسناد، وتقدح فيه وفي المتن معاً. وتقع في المتن، ولا تقدح فيه ولا في الإسناد، وتقع في المتن، وتقدح فيه دون الإسناد.

من هنا، علم الحديث ليس عمليات حسابية، فلا يكفي “التقريب” وحده للحكم على الأحاديث، دون النظر في شروط أخرى، أهمها علم العلل، يقول الحافظ بن حجر: “هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهماً غائصاً، وإطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن، وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك”، وهذا ما أفردنا بعضاً منه أعلاه.

*باحث وكاتب كويتي: المستشار عبد العزيز بدر القطان

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق